السؤال: ما قولكم فيمن يقول: إنه اطلع على اللوح المحفوظ، وقرأ فيه، وأنه يعلم العلم الباطن؟
الجواب: أما اللوح المحفوظ فهو عند الله تبارك وتعالى، ولو كان يطلع عليه هؤلاء الناس لما سمي محفوظاً، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: ((
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ))[يس:12] ففيه كل شيء، وهو يقول في الآية الأخرى : ((
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ))[الأنعام:59] فلو أن أحداً اطلع على اللوح لاطلع على علم الغيب الذي لم يطلع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه إلا من ارتضى من رسول عن طريق الوحي، لا عن طريق الاطلاع على اللوح المحفوظ، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد ولد آدم وأكرمهم على الله عز وجل لم يطلع على اللوح المحفوظ، وهذا مما يجب أن نعلمه، وإذا عرض لنا أحد هؤلاء الكذابين أو الدجالين، فلنعلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقع له ذلك، فكيف يقع لأمثال هؤلاء! ولذلك لا يقول هذه العبارة ولا يتفوه بها إلا من مرق من هذا الدين، وافترى على رب العالمين؛ إلا أن يكون مخبولاً ممسوساً بمس من الجن لا يعي ما يقول، والشياطين قد ركبت رأسه، فأصبحت تهذي على لسانه فلا يعي ما يقول! أما من يعي ما يقول، ويقول: إنه قرأ أو اطلع على اللوح المحفوظ فإنه كذاب بلا شك، وهذا يستحق العقوبة الرادعة، ولو قتل فإن القتل جزاء شرعي له إلا إذا تاب.
وبالنسبة للعلم الباطن ليس هنالك من علم يوصل إلى الله عز وجل إلا العلم الذي حواه الكتاب والسنة وعلمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه، ونقلوه جيلاً بعد جيل، وليس هنالك من علم آخر على الإطلاق، ولكن يتفاوت الناس في فقه هذا العلم، وفي تدبره وفي فهمه، وادعاء أن هناك علماً آخر، فهذا مؤداه أن يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبلغ الدين، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمره فقال: ((
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) [المائدة:67] فلو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئاً من الدين أو اختص به طائفة من الناس، فما بلغ رسالة الله، والله تعالى إنما أرسله إلى الناس: ((
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ))[إبراهيم:1] فكيف تكون رسالته رحمة للعالمين؟ وكيف يكون قد أرسله الله كافة للناس يخص ناساً من العلم دون أناس.
وأعظم من اُتهم بذلك وُنسِب إليه العلم الباطن أو اختصاص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له بالعلم الباطن هم آل بيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعلوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأهل الدنيا كأهل المال والسلطان في هذه الدنيا الذين يؤثرون أقرباءهم بما لديهم من سلطان أو مال أو متاع، ولما قيل ذلك وأشيع في زمن أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسئل كما في
صحيح البخاري {
هل خصكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم؟ قال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما خصنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم إلا فهماً نفهمه في كتاب الله، أو هذه الصحيفة وفيها فكاك الأسير والعقل والديات والنهي عن الحدث في المدينة وإيواء المحدث فيها}، وأمثال ذلك من أحكام معلومة بأحاديث أخرى يعرفها عامة المسلمين، ولكن لأنها مكتوبة وموجودة في قراب سيفه يقول: هذه مكتوية عندي وليست مكتوبة عند غيري، لكن غيره حفظها ورواها
أبو هريرة رضي الله عنه وغيره من الصحابة.
وغرض هؤلاء هو هدم الدين وأكثر ما يستدلون به هو قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، ونوجز كشف هذه الشبهة بالقول : بأن موسى عليه السلام نبي علمه الله تعالى علماً، والخضر نبي علمه الله تعالى علماً، ولكن موسى على علم لا يعلمه الخضر والخضر على علم لا يعلمه موسى كما جاء ذلك في نص الحديث قال: {
أنت على علم علمك الله إياه لا أعلمه، وأنا على علم علمني الله إياه لا تعلمه} ولما قال الكلمة التي قالها أراد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يطلعه على أن هنالك من هو أعلم منه، لا بإطلاق، ولكن أعلم منه بالعلم الذي لم يكن لدى موسى، وإلا فإن موسى أوتي التوراة ولم يؤتها الخضر.
والأمر الآخر أن الخضر ليس في قصته التي ذكرها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في سورة الكهف خروج عن العلم الظاهر، ولا عن الشريعة أبداً؛ فإن الاعتراض الأول أنه خرق السفينة لماذا؟ أخرقتها لتغرق أهلها؟ ليس من جزاء المحسن أن تسيء إليه!!
فأجابه الخضر: بأنني ما أسأت بل أحسنت إلى من أحسن إلي، لأن وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا. فأنا مع الشرع!
وفي الحالة الثانية قتل الغلام، وهو لم يخالف الشرع؛ لأن الله أطلعه أن هذا الغلام قد طبع كافراً، وأن في قتله رحمة لوالديه ولا خير فيه، فإذا فعل الإنسان بأمر من الله كما قال: ((
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي))[الكهف:82] فليس مخالفاً للشرع الظاهر.
فبإيجاز: موقف موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام في هذا الجانب مثل موقف الذي يعمل بعموم النص مع من يعارضه بنص معين، فتحريم قتل النفس نص عام: ((
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ))[الأنعام:151] فلو جاء رجل وقتل رجلاً نقول له: ((
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))[الأنعام:151] تحتج عليه بعموم النص فيأتيك هو ويقول: إن هذا الرجل قد ارتد والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {
لا يحل دم امرأ مسلم إلا بإحدى ثلاث... ومنها النفس بالنفس}، ((
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))[البقرة:179]، فأنت تستشهد بحق معين وبدليل معين، وهذا يبقى على عموم الأدلة عموم سلامة السفينة، عموم حرمة النفس وعموم امتناع العمل الذي لا مصلحة ظاهرة فيه، هذا موجز ذلك.
والقضية ليست بشبهات خفيت عليهم، وإن كان لدى بعضهم شيء من ذلك.
القضية أنهم أناس يريدون أن يهدموا هذا الدين، ويريدون أن يزخرفوا القول والشبهات؛ ليخرجوا المسلمين عن دينهم، وإلا فلِمَ يعمدون إلا أمثال هذه الوقائع، ويتركون النصوص الصريحة الجلية! يؤولون الصلاة! يؤولون الصيام! يدعون إلى ترك الأعمال الظاهرة المتواترة عن الأمة جيلاً بعد جيل! محتجين بأمثال هذه الشبهات التي لا تصلح ولا تنهض حتى عند من يحسبها شبهة، وما هي بشبهة؛ لكنها في الواقع أساليب ماكرة وضعها المجوس واليهود لهدم الإسلام من كل طريق، ولكن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- رد كيدهم في نحورهم، وإنه لفاعل ذلك لمن بقي منهم.